في لحظات الأزمات وتراجع الثقة الشعبية، تصبح الصورة أهم من الحقيقة. الفيديو الذي تحدّث عن نشر أربعين ألف جندي في سيناء لم يكن مجرد عرض عسكري، بل حلقة جديدة في مسلسل طويل من تزييف الوعي.
فالخطاب الرسمي لم يقتصر على إنتاج المادة البصرية، بل تلاه حشد من "اللجان الإعلامية" التي تحركت لتكرار الرسائل على نطاق واسع، مستخدمةً خطابًا عاطفيًا ومفردات تعبئة، وكأن البلاد على أبواب مواجهة كبرى.
هكذا تتحول المنصات الإعلامية من أدوات لنقل المعلومات إلى آلاتٍ لإعادة تدوير الوهم، حيث تُدار عقول الجماهير عبر ضخٍ منظم للمحتوى المصمم خصيصًا لشحذ المشاعر وتعويض تراجع الشرعية الداخلية.
https://youtu.be/CZMZUlpBXnE
الاستعراض العسكري كأداة سياسية
منذ عقود، ارتبطت القوة العسكرية في المخيال الشعبي المصري بالكرامة الوطنية والدفاع عن الأرض.
لكن مع مرور الزمن، انتقل هذا الرمز من ميدان الإنجاز العسكري الفعلي إلى مسرح الاستعراض الدعائي.
الإعلان عن نشر قوات بأعداد ضخمة، أو تنظيم مناورات واسعة، غالبًا ما يوجَّه للرأي العام أكثر من توجيهه للخصوم الخارجيين.
فبينما يُقدَّم الأمر للجماهير كإشارة إلى "الجاهزية"، فإن الواقع الإستراتيجي يختلف: مصر، وفق اتفاقية كامب ديفيد، لديها قيود واضحة على حجم ونوع القوات المنتشرة في سيناء، وأي تحرك يتجاوز ذلك يخضع لتنسيق مع أطراف دولية.
وهنا يتبدّى التناقض: استعراض داخلي ضخم لا يقابله استعداد حقيقي أو إرادة سياسية للدخول في مواجهة مباشرة.
الإعلام وتضخيم صورة القوة
ما إن يُعلن عن تحركات أو مناورات حتى تتكفل وسائل الإعلام المحلية بتضخيمها، وإخراجها في قوالب درامية تُشبه الإنتاج السينمائي، مصحوبة بموسيقى تصويرية وخطاب تعبوي.
الهدف هو شحذ عاطفة الجمهور وربط النظام القائم بصورة "الحامي" و"الدرع".
لكن هذه الدراما الإعلامية لا تتناسب مع مؤشرات الواقع: البطالة، الأزمات الاقتصادية، وتآكل الثقة الشعبية بالمؤسسات.
في الخارج أيضًا، تسعى هذه الحملات إلى تصدير صورة "الدولة القوية"، لكنها صورة تتهاوى سريعًا عند الاحتكاك بالحقائق والمؤشرات الدولية.
ترويج اللجان الإعلامية وتزييف الوعي
لم يقتصر الأمر على بث الفيديو الرسمي فقط، بل تحركت ما يُعرف بـ"اللجان الإعلامية" الموالية للنظام لتكراره وتضخيمه على منصات التواصل الاجتماعي، مستخدمةً خطابًا عاطفيًا يقوم على المبالغة والتهويل.
هذه اللجان قدّمت المشهد على أنه دليل قاطع على جاهزية الدولة وقوتها، وسعت إلى شيطنة أي صوت ناقد عبر وصمه بالتشكيك أو الخيانة.
في الحقيقة، لم يكن الهدف نقل معلومات بقدر ما كان إعادة إنتاج صورة ذهنية تُزرع في عقول المصريين: أن النظام قوي، وأنه في حالة استعداد دائم، رغم أن الوقائع على الأرض والاستراتيجيات الواقعية لا تدعم هذه الصورة.
هكذا يتحول الإعلام من ناقل للخبر إلى أداة منظمة لتزييف الوعي الجمعي، وإدارة الرأي العام وفق ما يخدم الخطاب الرسمي.
الشعارات مقابل القدرة الفعلية
الفجوة بين الشعارات والقدرة الفعلية ليست تفصيلاً، بل هي لبّ المعادلة.
عندما يُعلن عن نشر عشرات الآلاف من الجنود بينما لا توجد إرادة حقيقية أو استعداد واقعي للدخول في مواجهة إقليمية، تتحول الرسالة من تعبير عن القوة إلى مجرد شعار للاستهلاك المحلي.
ما يبقى إذن هو الاستخدام الداخلي: رفع المعنويات، إلهاء الجمهور عن أزمات الداخل، أو حشد الدعم في لحظة تراجع شعبية.
وهنا تصبح القضايا الوطنية الحساسة مجرد أوراق بروباغندا.
التأثير على الداخل المصري
قد تحقق هذه السياسات بعض النجاح قصير المدى عبر رفع الحماس الوطني أو إشاعة شعور زائف بالاطمئنان، لكنها سرعان ما تفقد تأثيرها مع غياب النتائج الحقيقية.
المواطن الذي يواجه غلاء الأسعار وانكماش الفرص لن يجد في الاستعراض العسكري حلًا لمشكلاته اليومية.
بل إن الإفراط في توظيف ورقة "الأمن القومي" وتكرارها عبر اللجان الإعلامية يُفقدها قيمتها، ويحوّلها من مصدر اعتزاز إلى خطاب يُقابل بالفتور أو السخرية.
ما جرى مع فيديو "الأربعين ألف جندي" يكشف بوضوح كيف تتحول الحملات العسكرية والإعلامية إلى أدوات لتزييف الوعي أكثر من كونها سياسات واقعية.
فاللجان الإعلامية، بتكرارها المفرط وضخها العاطفي، تسعى لزرع صورة ذهنية محددة في عقول المصريين، بينما تبقى الأزمات الداخلية على حالها.
الحقيقة أن الشرعية لا تُصنع باللقطات ولا بالمشاهد المصممة بعناية، بل بالقدرة على تحقيق إنجازات ملموسة تلمس حياة المواطنين.
أما تزييف الوعي فقد ينجح مؤقتًا في شحذ الشعبية، لكنه لا يُنقذ نظامًا يفتقر إلى حلول جذرية ولا يبني مستقبلًا مستقرًا.